جدل الألم والوعي: إحياء الضمير والذاكرة

2 سبتمبر 2013

 

"من يتحكم في الماضي، سيتحكم في المستقبل، ومن يتحكم في الحاضر، يتحكم في الماضي"

هكذا فهمها جورج أورويل في روايته العبقرية 1984 وهو يحدثنا عن هذا الوحش المسمى بوزارة الحقيقة ودوره في تزييف الوعي وتشويه التاريخ في جمهورية الأخ الأكبر. التحكم في آلة صياغة التاريخ، هدف أساسي يسعى إليه كل مبتغ للهيمنة على القلوب والعقول. فتلك العملية المسؤولة عن إعادة بناء الماضي في أذهاننا، هي ذاتها ساحة لصراع سياسي وثقافي، يرى الكثيرون أن الانخراط فيها ليس ترفا بحال.

خطوة التحكم في الماضي الأكثر أهمية وتأثيرا هي تلك المتعلقة بالإمساك بوثائق اللحظة الراهنة، وضمان عدم العبث بها، وجعلها الجذر الحقيقي لسرده، والمرجع لكل حديث عما وقع خلاله من جرائم، ومن ثم تكوين ذاكرة تلم تفاصيل هذه الجرائم، وتمهد السبيل لمحاسبة مقترفيها.

ثمة وعي قوي بالتاريخ لدى المستبدين، يستحثهم على السيطرة على عملية كتابته، وإخراج رواية "معتمدة" لأحداثه. إنهم يتفهمون قيمة الوثائق والأدلة والشهادات عند سرد التاريخ. ولذا يعمل أعداء الحقيقة على محو المصادر التي يمكن أن تشكك من قيمة ومصداقية جهدهم في إعادة بناء الماضي على النحو الذي يرتضونه، ويجدون بإلحاح في طمس وتشويه كل ما من شأنه أن يثير الريبة والأسئلة حول مدى صدق روايتهم.

وسردية ثورة الخامس والعشرين من يناير ليست خلوا من مثل هذا الصراع؛ بدء من مقدماتها، ومرورا بفاعليات الأيام الأولى، وتلك الموجات التي تتالت من بعدها، وصولا للموجة الثورية في الثلاثين من يونيو التي دخلت لمسار عثر، واختلطت فيها الرايات. وليس في ذلك من جديد؛ فثورتنا على ضخامتها، مثلها كمثل غيرها من الأحداث الكبرى في تاريخ الأمم، حيث تعارك أطرافها علي سرد سيرتها، وكل منهم يبتغي أن تسرد على نحو يتوافق وتصوره، وصورته فيها.

هذا الصراع قد يراه البعض طبيعيا، في ظل حقيقة أن الجميع؛ أفرادا وجماعات، يود أن يحكي ما رأى من قصة الثورة. كونها الحدث الأضخم والأبرز في حياة الكثيرين، وارتبطت به النفوس، علي نحو يجعلنا كمن ولد في ميادين التحرير، تبدأ سيرتنا لحظة خرجنا إليه هاتفين بسقوط النظام. والواحد منا في حكيه سيعكسها من منظوره، وستتلون بذاتيته، فمن هذه السردية الشخصية يستمد الفرد شعورا بالهوية وارتباطا رمزيا بكل ما تعلق بالثورة من أحداث.

لكن هذا السرد العفوي المتنوع - الذي لا شية فيه - يقابله سرد ليس عفويا بالمرة، يتغياه أعداء حقيقيون للثورة:

فهناك من ود التلون، والالتحاق المتأخر بركب الثورة، ويعمد لاختلاق أحداث من شأنها تغيير حقيقة موقفه، أو تبرير نكوصه. ومن يتزيدون كي يضيفوا لسيرتهم بطولة مختلقة، يسعون لإيجاد موقعا لقولهم وحركتهم في مركز الأحداث ابتغاء جعل مشاركتهم مشاركة استثنائية، محركة للتاريخ، وغايتهم أن يؤسسوا على تلك الفرية حقا في السلطة، ومكانة في النفوس.

الأخطر من هؤلاء وهؤلاء هم تلك الفئة المهزومة، ممن رأوا في الثورة إنهاء لوجودهم كنخبة خاصة متميزة، وخصما من مصالحهم وثرواتهم. هؤلاء لم يكّلوا للحظة عن السعي لوقف تداعيات الفعل الثوري وإعاقته، ويسعون دوما إلى التحالف مع كل سلطة جديدة آملين في امتطاء مركبها الآمن. وهؤلاء، ومن موقع الخصومة أو التلون، كما يود أحدهم أن تحكي حكاية الثورة وفق روايته، كيلا يطاله الوصم الاجتماعي، أو تصل إليه يد العدالة، تعمل جماعتهم على طرح سردية مختلقة وزائفة عن الثورة.

من هنا كان حفظ الذاكرة عمل في قلب الفعل الثوري، بما يشمله من تصنيف الوثائق وقراءتها، وإحياء مواقع الأحداث كمواقع للضمير تحكي وقائع المأساة، وتبين أسبابها، وتعلمنا كيفية تجنبها، وتشكيل جسور اقرار العدالة، التي حتما تأتي ولو بعد حين.

من يحكي "الحقيقة"

لنعد قليلا لما قبل الخامس والعشرين من يناير، فثمة مقدمات لمسعى تزييف الوعي، وتلوين الحقيقة بلون الاستبداد: لقد ظلت معاول نظام مبارك تستهدف بالإسكات كل صوت مخالف، أراد أن يلقى ضوءً خافتا على أوضاع المصريين تحت هذا الحكم، وحالة حقوق الإنسان على وجه الخصوص. ودأبت آلة التشويه الضخمة التي صنعها النظام، واستثمر فيها عقودا، على وصم منظمات المجتمع المدني والناشطين العاملين في هذا المجال؛ تارة بالعمالة للخارج؛ وتارة بالاسترزاق على حساب الأمن القومي؛ وتارة أخرى بالسعي لتكريس أفكار هدامة؛ أو ممارسة التشوية المنحاز لصالح فصائل سياسية بعينها في صراعها على السلطة؛ علاوة على الاتهام التقليدي بابتزاز السلطة لتحصيل المنافع الشخصية.

عمدت هذه الآلة إلى جرح مصداقية التقارير التي ترصد الانتهاكات وتوثق لفظائع ما ترتكبه الآلة الأمنية بحق الإنسان المصري، واستخدمت في ذلك أخس أساليب الدعاية السوداء والحط من السمعة والاغتيال المعنوي.

وبالطبع لم يغب عن نظام القهر إدراكه لحقيقة أن جرائم التعذيب لا تسقط بالتقادم، وظل واع لخطر وجود ذاكرة توثق هذه الجرائم، وتشير دوما لفاعلها. وسعى إلى محاربة الجهود التي حركها ناشطون وسياسيون مستقلون لإحياء الذاكرة. وأجاد نظام مبارك في وضع الحوائل أمام الحقيقة؛ فأظهر إصراره على حماية الجلادين، وغل يد القضاء عن محاكمة ضباط الشرطة والمسئولين ممن اقترفوا الانتهاكات. في الوقت ذاته لم يني يمارس العدوان على التوثيق، ويشكك في أعمال جمع الشهادات، وتصنيف الأرشيفات المتعلقة بحقوق الإنسان أيا كانت.

اختلف الأمر قليلا مع صحوة الجماهير، التي ترافقت وتزايد قدرات الرصد، وتطور تكنولوجياته واتاحتها أمام جيل جديد من الفاعلين السياسيين والنشطاء الحقوقيين. فانحسرت خلال العقد الماضي قدرة النظام على حصار جهود الرصد والتوثيق، وخارت قدراته على  منع الإمساك بدلائل الحقيقة. وقد بلغ بنظام مبارك الفزع من التوثيق والرصد والأرشفة مبلغه، ولعل أوضح  دليل على فزعه هذا من ظهور وثيقة تدينه، ما قام به في أيامه الأخيرة من تدمير وحرق للوثائق الخاصة بمباحث أمن الدولة وإدارات رئيسية في جهاز الشرطة، بالإضافة لإنكار المخابرات وجود أية أدلة أو وثائق رسمية بحوزتها تخص ما وقع من انتهاكات وأعمال قتل خلال أيام الثورة الأولى.

ولعل مسلك نظام مبارك هذا ليس مستغربا بالمرة، فمعاداة الحقيقة والعمل على طمسها يظل دأبا وسمتا ملازما لنظم الاستبداد عبر التاريخ.

صنع الذاكرة

إن تكريس رواية موثقة ومنطقية تعكس حقيقة وواقع ما جرى من انتهاكات أمر بالغ الأهمية، فهي بذاتها إرث وطني لا يجوز التفريط فيه، بغض النظر عن طبيعة ما تعكسه من حقيقة؛ كونها قد تطرح رواية مؤلمة، ربما لا يرغب في استعادتها أحد ممن تعلقت بهم مباشرة، سواء الضحايا أو المجرمون، وربما كذلك غالبية المجتمع التي تأمل في تجاوز سيرة ماض أليم.

فنسيان التجارب المؤلمة قد يكون مفهوما ومقبولا على مستوى الفرد، لكنه عند الجماعة مرض عضال، وآفة لا تعرفها الشعوب الحية؛ فذلك النسيان هو ما ينتهي بالجماعة إلى حالة نكوص عن تبين أسباب التجربة الأليمة. ومن ثم لا يمكنها منع تكرارها في المستقبل. إنها مهمة أساسية لمن يتحرون الحقيقة، لا يجب أن يحول بينهم وبين إنجازها هيمنة قوى سياسية، أو سيادة مقولات رجعية وتحريفية.

الحق في معرفة حقيقة ما جري من أحداث انتهاك لحقوق الإنسان يظل حقاً أصيلاً، غير قابل للتصرف؛ فهو لا يرتبط بالوقوف على كيفية وقوع الانتهاك وحسب، ولا يقف عند اجلاء مصائر الضحايا، واسناد المسئولية وتوجيه الاتهام، وغير ذلك من اجراءات تقتضيها العدالة ويتطلبها إنزال العقاب بحق المجرمين. بل يرتبط هذا بهدف حماية ذاكرة الجماعة من التحريف. إن تحصين العقل الجمعي من الزيف، يعينه على استلهام حكمة الماضي وفهم دروسه، واستيعاب أسباب أخطائه، استيعابا ييسر للمجتمع شق طريقه صوب المستقبل، بغير أن يتهدده السقوط في الفخاخ الدموية ذاتها مرة أخرى.

ومعرفة الظروف والأسباب التي أدت إلى إنتاج المأساة والإضرار بالضحايا، سبيل لا غنى عنه لتعلم الأجيال التي لم ترى المأساة، وهي أداة لاستئصال شأفة الشر وردع من يتشهاه من أن يعود ويقود. فلا سبيل لنزع جذور العنف الكامنة في النفوس ومنع تكرار هذه الشرور بغير تصور دقيق للماضي، يعيد بناء منطقه أمام العيون، علي نحو واضح ومقنع ومحقق بالأدلة والشهادات.

وقد يجادل البعض قائلا إن تجاوز الماضي وطي صفحته هو السبيل لإقرار السلام الاجتماعي الذي ينشده الجميع. وهذا الرأي علي ما يبدو فيه من وجاهة ظاهرية هو - في رأيي - قول مردود على أصحابه. فالنسيان ليس إلا مسكنا مؤقتا، لا يجتث شأفة الشر، ولا يضمن عدم تكرار المآسي ذاتها في المستقبل. إن الاطمئنان الحقيقي للنفوس لا يتأتي بغير المعرفة، والتيقن من سيادة العدل، وتجاوز الماضي الأليم لا يحصل دون إجلاء لمصائر الضحايا، قتلى ومفقودين.

أما لو انتقلنا من الحق إلي العدالة، التي لا يعاند عاقل في أهمية أن تسود في مجتمع صحيح معافى، فإن قدرتنا علي اقرارها تتوقف علي مد الجسور بين آلة اقرار العدل وحقيقة ما جرى؛ وهي جسور تبنى بلبنات اليقين، التي تصنعها اجراءات تقص فعالة وناجزة، تضع بين أيدي القضاة ولجان تقصي الحقيقة سردا لما جرى من انتهاك بحق الإنسان، يمكن معه تحديد المرتكبين لهذا الجرم وظروف وقوعه.

ولا جدال أن أي آلة للعدل ستقف عاجزة معطلة حين تتعطل هذه الضمانات أو تتراخى. الأمر الذي  يفتح الباب على مصراعيه أمام المجرمين كي يتلاعبوا بالأدلة، ويعبثوا في الوثائق، ويرهبوا الشهود ويخرسونهم. وبفعلهم هذا تنهار الجسور الواصلة بين الحقيقة وبين الناطقين بكلمة العدل، ممن ستغيم أمامهم الأحكام، وسيستحيل عليهم إقرار العدل الواجب وإنزال العقاب الرادع.

من هنا وجبت حماية الوثائق والأدلة، وحفظها علي نحو لا يجعلها مجرد ركام أخرس من أوراق ومحفوظات، وتيسيير الوصول إليها. تلك مسئولية تقع في المقام الأول على المجتمع، وتعينه فيها الدولة، التي تتحمل بمسئولية كفالة الضمانات ووضع الاجراءات الحامية للذاكرة الجماعية من الانقراض والتحريف.

بناء الأرشيف

تشير تجارب شعوب كثيرة سبقتنا إلي الثورة والانتقال الديمقراطي أنه لا سبيل إلى جبر ضرر الضحايا الذين يسقطون خلال الصراع مع منظومة الاستبداد، دون تدابير معتبرة للعدالة الانتقالية، تشمل اجراءات قانونية وقضائية خاصة، من بينها ضمانات للحد من أعمال تحريف تاريخ الثورة. ومن بين الإجراءات الشهيرة في هذا الخصوص إنشاء الأرشيفات والسيطرة على سجلات ووثائق الهيئات والمؤسسات المتورطة بأي صورة في أعمال القمع.

ولعل مطالعة تقرير مفوضية الأمم المتحدة لحقوق الإنسان الصادر العام الماضي أن تبين لنا واحدا من هذه المهام العاجلة، التي تضمن حماية تاريخ الثورة، وهو نقل الوصاية علي الأرشيف الأمني من يد المؤسسات المتورطة في الانتهاكات إلى هيئة مستقلة، تنشأ بقرار سياسي يعكس إرادة سياسية ومجتمعية عليا (قد تصدر عن رئيس الجمهورية أو رئيس الحكومة أو تخرج عن المجلس التشريعي في صورة قانون). والأمر لا يتم بقرار كهذا وحسب، لكن كذلك بأن يترك لأمين مظالم (آمبودسمان) مستقل مهمة عاجلة في السيطرة علي الأرشيفات وتجهيزها لغرض التحقيق في انتهاكات حقوق الإنسان، بتسجيل الوثائق والشهادات والأدلة وتدقيقها وتصنيفها علي نحو يعين علي التعامل معها.

هذا الوصّي الذي نعتبره مؤتمنا على ذاكرة الأمة سيعمل على خدمة أهداف عاجلة لإقرار العدالة وحفظ الذاكرة، وله فيما بعد أن يحيل المواد المؤرشفة لدار الوثائق القومية لتكون جزءا من الأرشيف الوطني تتعلم منها الأجيال التالية تاريخها.

أشير إلى هذا الطرح، كبديل عما نادى به البعض بإحالة أمر توثيق الثورة إلى الأرشيف الوطني (دار الوثائق القومية). لابد ههنا أن ننتبه لخصوصية هذا الأرشيف، ولضرورة استقلاله. وهي اعتبارات لا تتماشى معها حقيقة تبعية دار الوثائق لوزارة الثقافة، وهي وزارة ضعيفة، لا تحتمل ضغوطا قوية متوقعة ممن تهددهم الحقائق، ويسعون لوقف نشر ما يتعلق بها؛ وثانيا: لضعف القدرات في هذه المؤسسة علاوة على تضخم ما لديها من مسئوليات راهنة؛ وثالثا: والأهم لأن المسألة ذات الأولوية في السيطرة على الوثائق هي مسألة إتاحة الحقيقة والحق في معرفة ما جرى لذوي الضحايا وفق منظومة عمل دقيقة، وهو أمر يتطلب تفكيرا جديدا وتنظيما ناجزا.

يحيلنا هدف السيطرة علي الأرشيف وإعادة تجميعه إلى بعض الجوانب اللوجستية الحمائية، ومنها تأمين المباني الحاوية لهذا الأرشيف، وابعاده عن التهديدات التي قد تسبب محو آو فقدان ما به من مواد بالغة الأهمية. هناك ضرورات تتعلق أيضا بإدارة هذا الأرشيف واتباع قواعد دقيقة في ذلك، باستخدام تكنولوجيات الأرشفة الحديثة بغية التصنيف والتسجيل والترميز. وهذا بذاته لا يتأتى دون فهم دقيق لآليات الأرشفة التي اتبعها جهاز الشرطة، ويضيف لذلك فهمنا للسلوكيات البيروقراطية الخاصة بالتدوين والترقيم والنسخ وصلاحيات الاطلاع الممنوحة لمسئولي هذا الجهاز وما يتعلق بذلك من قواعد تنظيمية وتراتبية داخله. ومن الأمور المهمة على سبيل المثال: معرفة مواقع التخزين للوثائق في عموم أقسام وإدارات جهاز الشرطة ومقاره علي اختلافها وكذلك أماكن الاحتجاز والسجون. وتتبع أعمال الشرطة المرتبطة بوقائع الثورة يعيننا على انجاز هذه السيطرة علي الأرشيف وضبطه، ولهذا تجب السيطرة الآنية على كل ما يتعلق بالبلاغات، وأعمال المباحث العامة والتحقيق في الجرائم، وأعمال إدارة المعلومات والبيانات والاتصال وغرف العمليات والقيادة، وأقسام التحري، وكذلك مختبرات الشرطة ومعامل الأدلة الجنائية، هذا علاوة على تقارير العمل الاعتيادية في مواقع الأحداث وأقسامها بما في ذلك مقار المخابرات الداخلية وأمن الدولة. ويضاف إلى هذا أرشيفات جهات الإغاثة الطبية، وأقسام الاستقبال في المستشفيات.

ويتطلب هذا العمل ذي الخصوصية اختيار كوادر مؤهلة من العارفين بتقنيات الأرشفة، والواعين بالمعايير الدولية لوصف الأرشيفات، بحسب ما صنفها المجلس الدولي للأرشيف. ويمكن ههنا طلب المساعدة من الجهات الفنية التي لها سابقة عمل معتبرة مع مثل هذه الأرشيفات، ويجدر هنا الإشارة لتجارب دولية مفيدة خصوصاً في آلمانيا وفي المغرب وكذلك الأرجنتين وجواتيمالا، علاوة علي ما لدى عدد من المنظمات الدولية المعنية بالعدالة الانتقالية وتوثيق انتهاكات حقوق الإنسان من خبرات.

وتحكم هذا الأرشيف قواعد لإتاحة المواد المؤرشفة خلال مدة الوصاية تيسرها للباحثين عن الحقيقة بوضوح وعلانية. ويتم إعلام المعنيين بالخدمات المرجعية والأرشيفية المتوافرة، وحثهم على التقدم لطلبها. ويجب أن تقر هيئة الأرشيف سياسة منفتحة للإتاحة يُعلم بها مستخدمو الأرشيف.

مسألة الإتاحة مسألة على قدر كبير من الأّهمية، يوازَن القرار فيها بين ضرورات حفظ ما يتعلق بالخصوصية والأمن القومي وبين هذا الاحتياج الملح لمعرفة الحقيقة وما تحويه سجلات الشرطة ويشير إلى حقيقة ما جرى من انتهاكات بحق الضحايا. وهنا لابد من الإشارة إلى توافر معايير دولية معتبرة للإتاحة وأدلة عمل لها.

لا مراء أن فاعلية أرشيف كهذا تتوقف على مقدرته على إتاحة ما يحويه من وثائق ذات مصداقية معتبرة لأولئك الذين يبتغون معرفة الحقيقة؛ من المحامين وقضاة المحاكم، وأعضاء لجان تقصي الحقيقة، ونواب البرلمان، والباحثين في الأكاديميات، علاوة على الضحايا أنفسهم، وهم دون شك أصحاب الأولوية لمعرفة الحقيقة.

مواقع الضمير

تظل للأماكن التي وقعت بها الأحداث وشهدت فواجعها أهميتها المكملة لحفظ الذاكرة، فعبرها يمكن تحويل الألم إلى تجربة تعلم تنبه العقل الجمعي. ونرى في العديد من البلدان التي شهدت صراعا بين بطش السلطة المستبدة وحركات تحررية جماهيرية، أو في تلك التي وقعت بها مأساة الحرب الأهلية، كيف تحولت بعض أماكن الاحتجاز، ومباني القمع، وميادين الأحداث، إلى مزارات، تشكلت داخلها أنشطة مبدعة لحفظ الذاكرة، سواء الأنشطة التفاعلية، أو المتحفية، أو التعليمية. ليس الغرض من انشاء مواقع الضمير أيقنة الألم، ولا تكريس عقدة صنعتها حادثة في التاريخ الوطني، بل غايته فض أي محاولة لتحويل أحداث التاريخ الوطني إلى أساطير، ولمنع المخاتلات وأساليب الخداع السياسي أن تطال تاريخ المجتمع، وتحيله إلى طاقة تزييف للوعي.

ولا شك أنه في سياق الثورة المصرية في يناير 2011، تبرز عدة مواقع تصلح لإقامة مشروع ضخم لحفظ الذاكرة وإحياء الضمير الوطني، خصوصا في ميدان التحرير ومحيطه. وهناك أماكن أخرى كثيرة في جميع أنحاء البلاد، يمكن أن تظل علامة حية للذاكرة. ولهذا موضع تفصيل آخر، سنكتب فيه لاحقا.