مشروع قانون "الكادر الطبي" محاولة جزئية لإطفاء الحرائق لا ترقى إلى مستوى الحلول الإستراتيجية

28 مايو 2013

وافق مجلس الشورى من حيث المبدأ على تقرير لجنة الصحة والسكان ومكتب الشؤون الدستورية والتشريعية بشأن مشروع القانون المقدم من لجنة الصحة والسكان ـ المشروع لم تقدمه الحكومة ـ لتنظيم الكادر الفني والمالي لأعضاء المهن الطبية. وينص مشروع القانون على أن تُصرف زيادات في الأجور، ترتيبًا على تطبيق هذا الكادر الجديد، على ثلاث مراحل زمنية وفي خلال ثلاث سنوات بنسب محددة، على أن يبدأ التنفيذ من تاريخ التسكين على الكادر الذي يستفيد منه كل العاملين في القطاعات الصحية الحكومية، من أطباء بشريين وأسنان وصيادلة وعلاج طبيعي وهيئات تمريض وفنيين صحيين ومساعدين علميين، تقدر أعدادهم بقرابة 650 ألف مستفيد.

وقد أثار المشروع ردود أفعال متباينة في أوساط الأطباء والفريق الصحي. إذ استند المتشائمون منهم إلى تصريحات سابقة لوزير الصحة مؤداها أن المشروع ربما لا يقرّ تنفيذه في العام المالي 2013 ـ 2014 بسبب عجز الموازنة وعدم توافر الاعتمادات المالية اللازمة للبدء في تطبيقه.

كما اتهمت جماعة "أطباء بلا حقوق" نقابة الأطباء بالعمل على إجهاض نضالات الأطباء المستمرة منذ عام 2008 لتحسين أوضاع العاملين بالمهن الطبية المهنية والمالية، كما دعت إلى الاعتصام التبادلي في وزارة الصحة بدءًا من الخامس عشر من يونيو القادم، إذا لم يُقر فورًا مشروع الكادر الذي قدمته الجمعية العمومية للأطباء في دورتها الأخيرة وتنفيذه بدءًا من شهر يوليو القادم وتضمين موارده في موازنة الحكومة لعام 2013 ـ 2014.

والواقع أن مشروع القانون المطروح أمام مجلس الشورى يمثل حلقة في سلسلة السياسات العامة الجزئية المفرّغة من المضمون التي تسعى إلى إطفاء الحرائق أو التفاعل مع الأزمة ولا ترقى إلى مستوى إحداث تغيير إستراتيجي حاسم وإصلاح جذري حقيقي لمجمل أوضاع المنظومة الصحية، ومن ضمنها وضع هيكل أجور عادل للفريق الصحي والإداري إجمالا.

لا يمكن اختزال حلول مشاكل المنظومة الصحية في مجرد مشروع كادر للأطباء أو زيادات مالية في المرتبات، وإنما لابد من النظر إلى قضية إصلاح القطاع الصحي باعتبارها سلسلة مترابطة من الإصلاحات المفصلية في منظومة الرعاية الصحية، تتضمن تغييرات نوعية في نظرة الطبيب إلى عمله الحكومي بحيث يعتبره عمله الأساسي والوحيد، وما يستتبع ذلك من تغيير نظرته إلى المريض في المستشفيات العامة، الأمر الذى سيؤثر تدريجيًّا على مدى تقبله منظومة تطوير راقية تتضمن التنمية البشرية والرقابة والمحاسبة، وهو ما سيحدث بدوره تحولا إيجابيًّا في هيكل الإنفاق العام الصحي، وسيمهد كثيرًا لعمليات التحول نحو هدف التغطية الصحية التأمينية الشاملة لكل المصريين، التي تعتبر  من أهم أركان العدالة الاجتماعية التي نادى بها الشعب في ثورة يناير 2011.

إن إقرار هذا المشروع بقانون في ظل النظام الصحي الحالي لن يُصلح النظام ولن يحقق رضاء الطبيب ولا رضاء المريض إذا تم بمعزل عن إحداث تغييرات تنظيمية كبيرة محسوبة بدقة تهدف إلى تنمية القوى البشرية في القطاع الصحي والتعليم الطبي. بدون هذا لن يكون لزيادة الأجور أثر واضح في تعظيم كفاءة النظام الصحي والحد من سلبياته، مهما كان معدل الزيادة في إجمالي دخل أفراد الفريق الصحي.

فالمقترح العلمي الذي اقترحته الدراسات الخاصة بهيكل الأجور من قِبل الخبراء المحليين والدوليين، هو ضرورة أن يحتل الثابت من الدخل نسبة 80% من إجماليه، وألا تزيد نسبة الأجر المتغير، الذي يُقرر على أساس الأداء، عن 20% من الإجمالي. وهو بالضبط ما لم يحدث في المشروع الذي تم إقراره من حيث المبدأ.

كل هذا يدعونا إلى الاعتقاد أن مشروع قانون كادر العاملين بالمهن الطبية هو مجرد رد فعل مبتسر على احتجاجات الأطباء. وبهذا المعنى فإن ما يتم الآن لا يخرج عن منظومة سياسات النظام السابق من ناحيتين: الأولى أنه أقر زيادات في نسب الحوافز والمكافآت والبدلات مع الاحتفاظ بتدني المرتب الأساسي، والثانية أنه تبنى أسلوب الإصلاح الجزئي التلفيقي على أمل إجهاض فرص اتساع الاحتجاج في القطاع الطبي.

لكن أغلب الظن أن مجريات الأحداث في الأيام القادمة ستثبت عدم جدوى هذه الاستجابة قصيرة النفس التي تستهدف تحقيق مكاسب سياسية صغيرة لمصلحة نظام الحكم.

المطلوب الآن القيام بإجراءات حاسمة، حتى لو كانت متدرجة. المطلوب سياسة ثورية الطابع وعميقة الأثر لتغيير طبيعة النظام الصحي. تبدأ هذه السياسة بإجراء عاجل يتمثل في تعديل هيكل أجور الأطباء والفريق الصحي برمته بحيث يصبح مماثلا لهيكل أجور الأطباء والفرق الصحية الأخرى في القطاع العسكري. يتزامن هذا مع البدء في اتخاذ خطوات جريئة على طريق إعادة هيكلة المنظومة الصحية، أولا من خلال تطبيق خطة واقعية محكمة لتوسيع نطاق المظلة التأمينية لتشمل كل الفئات الأفقر والأكثر تهميشا في المجتمع، وثانيا من خلال التخطيط لبناء كادر مهني لأطباء الرعاية الأولية في الريف والحضر، بالذات المناطق المحرومة، مع تنمية قدراتهم عبر إستراتيجية متوسطة وطويلة المدى لتنمية القوى البشرية في المجال الصحي، كل ذلك على أساس من سياسة لا مركزية في التخطيط وإدارة الموارد المالية والبشرية.

 

دون ذلك سوف تشتعل الحرائق!