قانون التأمين الصحى الجديد بين الفرص والمخاطر

28 مارس 2016

منذ منتصف التسعينيات من القرن الماضى وتجرى محاولات متكررة لإصلاح النظام الصحى المصرى برمته، وفى المقدمة منه نظام التأمين الصحى الاجتماعى، والذى بات بعد خمسين عاما من تأسيسه يعانى من العديد من نقاط الضعف أبرزها عدم رضاء المواطنين عن جودة تقديم الخدمات، إضافة لمحدودية إتاحة الخدمة خاصة فى الريف مقارنة بالحضر وفى القطاعات غير المنتظمة من العمل قياسا للعاملين فى أطر العمل الرسمية.

وفى السنوات العشر الأخيرة قامت الحكومة بتقديم عدة مسودات لقانون جديد للتأمين الصحى كانت فى مجملها تفتقد الرؤية الشاملة لطبيعة التغيير المطلوب لإصلاح النظام الصحى. وفى السنوات الثلاث الأخيرة تشكلت لجنة مجتمعية جديدة لتأسيس وصياغة مشروع قانون تأمينى شامل يعالج سلبيات المحاولات السابقة، وضمت اللجنة المشكلة لهذا الهدف الكبير أغلب التيارات واﻻتجاهات السياسية فى البلاد ومعظم أصحاب الشأن من الخبراء المعنيين بهذا الأمر.

وكانت فكرة إعداد قانون شامل وموحد قد نشأت أساسا كحل جذرى لعلاج مشاكل النظام الحالى المتمثلة فى ضعف ملاءته المالية وعدم قدرته على اﻻستدامة وعدم قدرته على تغطية فئات من المجتمع محرومة من الحماية الصحية خاصة العمالة الموسمية وغير الرسمية. إلى جانب زيادة معدلات خروج المشتركين من النظام من ذوى الدخول المرتفعة والتكلفة المنخفضة مما أثر سلبا على النظام إلى جانب تحصيل اشتراكات على جزء محدود من دخول المشاركين مما أضعف مصادر تمويله، إلى جانب عدم رضاء المشاركين عن مستوى جودة الخدمات المقدمة فيه مما أدى إلى توجه شرائح كبيرة من المواطنين إلى القطاع الخاص، ما هدد استقرار الكثير من الأسر المصرية خاصة من الشرائح الدنيا منها ماليا، حيث بلغ إجمالى ما ينفقه المصريون من دخولهم الجارية على الرعاية الصحية نحو 72% من إجمالى الإنفاق على الصحة.

***

لذلك كله، سعت اللجنة العاملة على الانتهاء من القانون وفق فلسفة معلنة باعتباره أهم الأساليب العملية المتاحة لتحقيق التغطية الصحية الشاملة، حيث يتم من خلاله التوسع بشكل تدريجى فى تغطية صحية لكل المواطنين إلزاميا، مع وضع سياسية فعالة لإعفاء غير القادرين (من الشرائح الدنيا للدخل) من أعباء الاشتراك ماليا، فضلاً عن توفير شبكة أمان صحى لهم بنفس المستوى والجودة خاصة الفئات الأكثر تعرضا لمخاطر المرض (مثل المواليد والرضع والنساء والحوامل وكبار السن)، ويتأتى ذلك بإجراءات مالية واقتصادية مصحوبة بتقوية آليات جمع ودمج موارد وقنوات التمويل فى وعاء تمويلى تأمينى أكبر حجما يتيح الاستخدام الأمثل للموارد داخل القطاع الصحى (صندوق قومى للتأمين الصحى) واعتمادا على مبدأ التضامن الاجتماعى، وتحمل خزانة الدولة لأعباء غير القادرين واعتمادا على الأسرة كوحدة للنظام التأمينى الجديد.

فى هذا السياق قامت اللجنة باﻻنتهاء من القانون فى مسودته الأخيرة عقب سلسلة من الحوارات المجتمعية الموسعة والمتعددة الأطراف استقبلت خلالها العديد من الملاحظات النقدية للقانون من الأحزاب والنقابات واﻻتحادات والأطراف الأخرى المعنية بهذا التشريع الأساسى. وكانت مجمل الملاحظات تدور حول أهمية تأكيد ما ورد فى الدستور الأخير باعتبار الصحة حقا جوهريا للمواطنين، بما يشمل ضمان تقديم حزمة خدمات تأمينية شاملة تغطى جميع الأمراض.

ولضمان أسلوب تمويلى عادل من الاشتراكات للفئات القادرة اعتمد على مجمل الدخل بنسبة مقننة بين العاملين وأصحاب الأعمال، وبالحد من استخدام أسلوب المساهمات عند تلقى الخدمة إلى الحد الأدنى، الذى يضمن إتاحة الخدمة ويضمن عدم إساءة استخدامها.

كما أكدت الملاحظات على ضرورة أﻻ يكون أسلوب فصل تمويل الخدمة من القانون عن مؤسسات إدارة وتقديم الخدمة مدخلاً لخصخصة النظام، وذلك بالنص الواضح والصريح فى القانون على أن الهيئات الثلاث، التى يؤسس لها هى هيئات عامة لا تهدف إلى الربح ومملوكة للدولة أو المجتمع وتتمتع بالاستقلال والشخصية الاعتبارية (هيئة التأمين الصحى اﻻجتماعى وصندوق التأمين – هيئة الرعاية الصحية العامة – هيئة عامة للاعتماد والجودة).

وهذا ما قامت اللجنة بوضعه بوضوح فى نص مسودة القانون الأخيرة المقدمة إلى الحكومة فى الآونة الأخيرة، ما يعد من إيجابيات الحوار المجتمعى الموسع الذى تم حول سلبيات النص بهدف تحقيق توافق مجتمعى بشكل متوازن مع ملاحظات الأطراف المختلفة لضمان عدم تعرضه لما تعرض له قانون الخدمة المدنية أخيرا.

***

ومع ذلك فالقانون سوف يظل أداة تشريعية فوقية ﻻ يمكن تنفيذ فلسفته الكلية وبنوده التفصيلية إﻻ عبر تحقيق تغيير ملموس على أرض الواقع فيما يتعلق بإصلاح جوانب المنظومة الصحية مثل توفير الموارد المالية اللازمة له من الخزانة العامة للدولة على الأقل فى مراحل تنفيذه التدريجية وتوفير القوى البشرية والبنية التحتية الأساسية والضرورية فى كل محافظة يبدأ فيها التطبيق وذلك بافتراض موافقة البرلمان عليه.. ذلك ما يعد من وجهة نظر اللجنة المؤسسة له عنق الزجاجة الأبرز فيما يسمى بالمرحلة اﻻنتقالية للتنفيذ.

وهو بالفعل التحدى الأساسى أمام الدولة الذى يواجه حلم تحقيق العدالة الاجتماعية فى الصحة.. وحلم تحقيق التغطية الصحية الشاملة لكل المصريين بغض النظر عن قدراتهم المالية، كما نص عليه فى دستور مصر الأخير، وذلك بالفعل ما يستلزم إرادة سياسية على أعلى المستويات.

فهل تنجح كل اﻻتجاهات الحكومية وغير الحكومية التى تضافرت وراء هذا المشروع الطموح فى تجاوز كل السلبيات، التى اكتنفت عملية تأسيس وصياغة القانون، وهل تنجح فى تحدى توفير التمويل اللازم لها بشريا وماليا؟

هذا ما سوف تسفر عنه الأيام والإجراءات المقبلة فى برنامج الحكومة الذى سوف يقدم إلى البرلمان قريبا وفى ردود أفعال البرلمان الحالى عليه، وفى قوة الدعم الذى سوف توفره قيادة الدولة لذلك لتحويل ما ورد فى القانون من إيجابيات ولإصلاح جذرى وحقيقى لمنظمة الصحة فى البلاد ولتحقيق ما رود فى الدستور لصالح حقوق المصريين فى الصحة. دعونا ننتظر ونرى القادم القريب.

 تم نشر هذا المقال عبر بواية الشروق بتاريخ 22 مارس 2016